السيرة المختصرة لحياة الإمام جعفر الصادق عليه السلام
الإمام جعفر الصادق عليه السلام
الإمام السادس
هو جعفر بن محمد الصادق وأمه فاطمة الملقبة «بأم فروة» ولد بالمدينة يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول يوم ميلاد النبي ، وكان ذلك سنة ثلاث وثمانين، ومات مسموماً يوم الخامس والعشرين من شوال سنة مائة وثمان وأربعين، وعمره إذ ذاك خمس وستون سنة.
له من العلم والفضل، والحكمة والفقه، والزهد والورع، والصدق والعدل، والنبل والسؤدد، والكرم والشجاعة.. وسائر الفضائل، ما لا يحصيه العادون، ولقد قال المفيد(ره): ولم ينقل من أحد من أهل بيته العلماء ما نقلوا عنه ولا لقى أحد من أهل الآثار ونقلة الأخبار، مثل جعفر بن محمد الصادق ، وقد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل.. إلخ، وأبو حنيفة إمام الحنفية كان من تلامذته.
ومن زهده كان يأكل الخل والزيت ويلبس قميصاً غليظاً خشناً وربما لبس المرقع، وكان يعمل بنفسه في بستانه، ومن عبادته أنه كان يصلي كثيراً وربما غشي عليه في الصلاة، واستدعاه المنصور في ليلة، قال الخادم: فصرت إلى بابه فوجدته في دار خلوته معفراً خديه، مبتهلاً بظهر يديه، قد أثر التراب في وجهه وخديه وكان كثير العطاء، حسن الخلق، لين الكلام، طيب المجالسة، ظريف المعاشرة.
جعفر الصادق
ومن ثّم كان خليفته ووصيه، ونقل الناس عنه العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان. وروى عنه الأئمة الأكابر: كيحيى ابن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني وأمه: فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر كما مرّ.
وسعى به عند المنصور لما حج فلما حضر الساعي به يشهد قال له: أتحلف؟ قال: نعم! فحلف بالله العظيم إلى آخره، فقال: احلفه يا أمير المؤمنين بما أراه؟ فقال له: حلّفه، فقال له: قل برئت من حول الله وقوّته والتجأتُ إلى حولي وقوّتي لقد فعل جعفر كذا وكذا، وقال: كذا وكذا، فامتنع الرجل ثم حلف، فما تمّ حتى مات مكانه، فقال أمير المؤمنين لجعفر: لا بأس عليك أنت المبرأ الساحة المأمون الغائلة، ثم انصرف فلحقه الربيع بجائزة حسنة وكسوة سنيّة وللحكاية تتمّة.
ووقع نظير هذه الحكاية ليحيى بن عبد الله بن المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بأن شخصاً زبيرياً سعى به للرشيد فطلب تحليفه فتلعثم فزبره الرشيد فتولى يحيى تحليفه بذلك فما أتم يمينه حتى اضطرب وسقط لجنبه فأخذوا برجله وهلك، فسأل الرشيد يحيى عن سر ذلك، فقال: تمجيد الله في اليمين يمنع المعاجلة في العقوبة.
وذكر المسعودي: أنّ هذه القصة كانت مع أخي يحيى هذا الملقّب بموسى الجون وأن الزبيري سعى به للرشيد فطال الكلام بينهما ثم طلب موسى تحليفه فحلفه بنحو ما مرّ، فلمّا حلف قال موسى: الله أكبر حدّثني أبي عن جدّي عن أبيه عن جدّه على أن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: ما حلف أحد بهذه اليمين، أي وهي تقلّدت الحول والقوة دون حول الله وقوّته إلى حولي وقوتي ما فعلت كذا وهو كاذب، إلاّ عجّل الله له العقوبة قبل ثلاث، والله ما كذبت ولا كذبت، فوكل عليَّ يا أمير المؤمنين فإن مضت ثلاث ولم يحدث بالزبيري حادث فدمي لك حلال، فوكل به، فلم يمضِ عصر ذلك اليوم حتى أصاب الزبيري جذام فتورم حتى صار كالزق، فما مضى إلاّ قليل وقد توفّي، ولا أُنزل في قبره انخسف قبره وخرجت رائحة مفرطة النتن، فطرحت فيه أحمال الشوك فانخسف ثانياً، فأخبر الرشيد بذلك فزاد تعجّبه، ثم أمر لموسى بألف دينار، وسأله عن سر تلك اليمين، فروى له حديثاَ عن جده علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من أحد يحلف بيمين مجد الله فيها إلا استحيا من عقوبته، وما من أحد حلف بيمين كاذبة نازع الله فيها حوله وقوّته إلاّ عجّل الله له العقوبة قبل ثلاث.
وقتل بعض الطغاة مولاه فلم يزل ليلة يصلي ثم دعا عليه عند السحر فسمعت الأصوات بموته، ولما بلغه قول الحكم بن عباس الكلبي في عمه زيد:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة **** ولم نرَ مهدياً على الجذع يصلب
قال: اللهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك فافترسه كالأسد.
من مكاشفاته
أن ابن عمه عبد الله المحض كان شيخ بني هاشم وهو والد محمد الملقّب بالنفس الزكيّة، ففي آخر دولة بني أمية وضعفهم أراد بنو هاشم مبايعة محمد وأخيه، وأرسل لجعفر ليبايعهما فامتنع، فاتهم أنه يحسدهما فقال: والله ليست لي ولا لهما إنها لصاحب القباء الأصفر[1] ليلعبن بها صبيانهم وغلمانهم، وكان المنصور العباسي يومئذ حاضراً وعليه قباء أصفر(فما زالت كلمة جعفر تعمل فيه حتى نالها وسبق جعفر إلى ذلك والده الباقر، فإنه أخبر المنصور بملك الأرض شرقها وغربها وطول مدّته، فقال له: وملكنا قبل ملككم، قال: نعم، قال: ويملك أحد من ولدي؟ قال: نعم، قال: فمدّة بني أمية أطول أم مدّتنا؟ قال: مدّتكم وليلعبنّ بهذا الملك صبيانكم كما يلعب بالأكرة، هذا ما عهد إليّ أبي، فلما أفضت الخلافة للمنصور بملك الأرض تعجّب من قول الباقر[2]
وأخرج أبو القاسم الطبري من طريق ابن وهب قال: سمعت الليث بن سعد يقول: حججتُ سنة ثلاث عشرة ومائة ولما صلّيت العصر في المسجد رقيت أبا قبيس فإذا رجل جالس يدعو فقال: يا رب، حتى انقطع نفسه، ثم قال: يا حي يا حي يا حي حتى انقطع نفسه، ثم قال: إلهي إني أشتهي العنب فأطعمنيه، اللهمّ وإن برداي قد خلقا فاكسني، قال الليث: فوالله ما استتم كلامه حتى نظرت إلى سلة مملوءة عنباً وليس على الأرض يومئذ عنب، وإذا بردان موضوعان لم أرَ مثلهما في الدنيا، فأراد أن يأكل، فقلت: أنا شريكك، فقال: ولم؟ فقلت: لأنك دعوتَ وكنتُ أؤمن! فقال: تقدّم وكل، فتقدّمت وأكلتُ عنباً لم آكل مثله قط، ما كان له عجم، فأكلنا حتى شبعنا ولم تتغير السلّة، فقال: لا تدخر ولا تخبئ منه شيئاً، ثم أخذ أحد البردين ودفع إليّ بالآخر، فقلت: أنا بي غنى عنه فائتزر بأحدهما وارتدى الآخر، ثم أخذ برديه الخلقين فنزلوهما بيده، فلقيه رجل بالمسعى فقال: اكسني يا رسول الله مما كساك الله فإنني عريان، فدفعهما إليه، فقلت: من هذا؟ قال: جعفر الصادق، فطلبته بعد ذلك لأسمع منه شيئاً فلم أقدر عليه، انتهى.
توفّي سنة أربع وثمانين ومائة مسموماً أيضاً على ما حكي، وعمره ثمان وستون سنة، ودفن بالقبة السابقة عند أهله عن ستة ذكور وبنت.